الفصل الثاني

افتراضات أساسية تميَّز بها كتاب الدكتور بوكاي

 

قال د بوكاي إنه توخَّى الموضوعية المطلقة في ما كتب، وإنه بدون أي فكر مسبَّق فحص الوحي القرآني، وأعاد الفحص نفسه على التوراة والإنجيل بذات الروح الموضوعية، وإنه بدأ من الحقائق وليس من المفاهيم الغيبية، وافترض أن المرء يمكن أن يكون استنتاجياً يأخذ المعرفة من الحق، وليس استقرائياً يرى ما يريده في النص (ص 13).

 

ولكن ما يقوله د بوكاي يناقض مكتشَفات القرن العشرين في العلوم الإجتماعية، فلا يوجد ما يُقال عنه (وذلك بدون أي فكر مسبَّق وبموضوعية تامة) ويوضح (توماس كون) في كتابه (تركيب الثورات العلمية) 9 أن تفسير الحقائق العلمية يتوقف على بِنية المفسّر الغيبية، وقال إن فلاسفة العلم برهنوا مراراً أنك يمكن أن تحصل على نظريتين علميتين مختلفتين مبنيتين على ذات المعلومات! وفي عام 1905 اقتبس (جيمس أور) كتابات اللاهوتي الألماني (بيدرمان) الذي قال إن الواجب هو دراسة النصوص بدون أفكار وافتراضات مسبَّقة، ولكن الواقع أن كل طالب يجيء إلى المباحث التاريخية بنوعٍ من التعريفات التي تعيّن الحدود، يراها الطالب افتراضات عقائدية مسبَّقة) 10

 

وعندما يقول د. بوكاي إنه موضوعي فإنه يتجاهل افتراضاته المسبَّقة ولذلك سنُوضح أربعةً من افتراضاته المسبقة، وهي:

 

1.     العلم هو مقياس كل شيء

2.     يجب أن يتكلم الكتاب المقدس لغة القرن العشرين

3.     للقرآن أن يتكلم لغة عصره

4.     افتراضات أخرى عن الكتاب المقدس

 

1- العلم هو مقياس كل شيء:

يفترض د بوكاي أن التوافق بين العلم والدين هو المقياس الأول الذي يحدد صحة النصوص الدينية وفي هذا الافتراض بعض الحق ولكن ما هو مستوى التوافق المطلوب؟ وما هو مستوى الصحَّة العلمية اللازمة؟ كلنا يعلم أن (الصحّة العلمية) نالها تغيير كثير، ود بوكاي يعترف بهذا ويقول: 

(إننا عندما نتحدث هنا عن حقائق العلم فإننا نعني بها كل ما قد ثبت منها بشكل نهائي وهذا الاعتبار يقضي باستبعاد كل نظريات الشرح والتبرير التي قد تفيد في عصرٍ ما لشرح ظاهرة، ولكنها قد تُلغَى بعد ذلك تاركةً المكان لنظريات أخرى أكثر ملاءمة للتطور العلمي وإن ما أعنيه هنا هو تلك الأمور التي لا يمكن الرجوع عنها، والتي ثبتت بشكل كافٍ بحيث يمكن استخدامها بدون خوف الوقوع في مخاطرة الخطأ، حتى وإن يكن العلم قد أتى فيها بمعطيات غير كاملة تماماً) (ص 12)

وتعريف د بوكاي للعلوم مقبول للمناقشة، ولكنه يعطيك الانطباع أن العلم محدود بالفيزياء الفلكية وعِلم الأجنَّة والمائيات ولكن عندما نتأمل جذر كلمة (عِلم) (هو أمر يحب د بوكاي عمله) نرى أنها تشمل كل ما نعلمه من معرفة، من علم الآثار والتاريخ والجيولوجيا، كما أن هناك معلومات دينية عن النبوات وتحقيقها ويقول د بوكاي:

(هذه المواجهة مع العلم لا تتناول أية قضية دينية بالمعنى الحقيقي للكلمة) (ص 12)

ونحن نختلف معه في هذا، فإن هدف كل كتابة وقراءة في أي كتاب هو البحث عن الحقائق الدينية وأهم سؤال ديني هو: (هل هناك إله؟) ثم (كيف أعرفه وأنشئ علاقة معه؟) وسنجد كتباً في علم الأحياء أو الكيمياء صحيحة علمياً، ولكنها لا تذكر اسم الله أبداً وفي بعض الأحيان تتعارض المعارف العلمية والدينية، وكمثال لذلك ما بحثه د بوكاي عن النجوم والكواكب والشهب الثاقبة التي تنقضّ فتثقب ما تنزل عليه، فقد اقتبس من سورة الصافات 37:6 (وهي من العصر المكي الأول) (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) ولا مشكلة في هذا، ولكن قراءتنا للآيات التالية ترينا مشكلة دينية تقول الآيات 7-10 من سورة الصافات (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).

 

وهنا نرى الشهب الساقطة (وهي مادية) في مواجهة مع أشخاص روحيين، فالله يضرب الشيطان بالشهاب الثاقب الله روح، والشيطان روح، والله الروح يضرب الشياطين الروحية بنيازك مادية (سنناقش هذا بتفصيل في جزء 4 فصل 2) ثم يقول د بوكاي: (ولكن المعنى يصبح مبهماً عندما يشرك القرآن اعتبارات ذات طابع روحي صرف بمفاهيم مادية يسيرة على فهمنا، وقد استنرنا اليوم بالعلم الحديث) (ص 182) ثم يقول: (كل هذه التأملات تبدو خارج موضوع هذه الدراسة) (ص 183).

 

ولا شك أن سورة الصافات 6-10 تواجهنا بصعوبة، لا يكفي أن يُقال معها (يصبح المعنى مبهماً) أو (خارج موضوع هذه الدراسة) فإن كتاباً يحمل عنوان (القرآن والتوراة والإنجيل والعِلم) كان يجب أن يتعامل مع هذه الصعوبة ويوضحها.

 

ولهذا السبب لا أقول إن كتابي هذا يتوقف عند الشئون العلمية، أما الأمور الروحية فتخرج عن نطاقه فكتابي يعالج العلوم، كما يعالج المشاكل الأساسية التي تواجه المسيحيين والمسلمين في نقاشهم معاً سأناقش: ما الذي يقوله القرآن عن الكتاب المقدس؟ هل حقاً تحرّف الكتاب؟ كيف يعرف المسلم أن القرآن لم يتحرف؟ ما هي مكانة الحديث؟ ماذا يقول القرآن والكتاب المقدس عن الشفاعة؟ كيف نميّز النبي الصادق؟

 

د بوكاي لا يقيس القرآن والكتاب المقدس بالمقياس ذاته.

 

2- يفترض د بوكاي ضرورة أن يتكلم الكتاب المقدس لغة القرن العشرين:

يحكم د بوكاي على الكتاب المقدس بمقاييس القرن العشرين، فيقرأه كوثيقة علمية فإذا ظهر له أن فقرة تحتوي على معلومات غير مقبولة علمياً يقول إنها ليست وحياً! وكل ما يبدو له في الكتاب المقدس (غير معقول) أو (غير محتمل) يكون برهاناً على خطإ الكتاب وهو يدَّعي أنه ما لم يتفق الكتاب المقدس مع العلم الحديث فإنه لا يكون كلام الله، ولا حتى وثيقة تاريخية صحيحة وهو لا يقبل تفسيراً يصحح رؤيته الشخصية وكل محاولة للتوضيح هي (ذلك الذي أخفاه هؤلاء المعلّقون تحت بهلوانيات جدلية حاذقة غارقة في الرومانسية المديحية) (ص 285).

 

ويطلقون على طريقة د بوكاي هذه في التقييم اسم (أسلوب الهجوم) لأنك ترى فيها التحيُّز ضد كل وثيقة، مع بذل الجهد ليجعل كل ما يعنّ له يبدو (خطأً).

 

3-  للقرآن أن يتكلم بلغة عصره:

يقول د بوكاي إن العلم الحديث هام جداً، وهو المقياس المضبوط الذي يشهد لصحَّة القرآن ويبدو أن د بوكاي يقيس الكتاب المقدس والقرآن بذات المقياس، لكن ببعض التفريق:

 

فبعد اقتباس الآيات 27-33 من سورة النازعات يقول: (إن وصف نِعم الله الدنيوية على الناس، ذلك الذي يعبّر عنه القرآن، في لغة تناسب مزارعاً أو بدوياً من شبه الجزيرة العربية، مسبوق بدعوة للتأمل في خلق السماء) (ص 162).

 

إذاً لم يعُد نقص الدِّقة العلمية عيباً كما يدَّعي د بوكاي على الكتاب المقدس! لقد اعتبر كلمات سورة النازعات امتيازاً ممنوحاً لأهل قريش البدو أو المزارعين الذين عاشوا قبل عصر العلم الحديث، فكلمهم القرآن بلغة تناسبهم! وهذا ما نسمّيه (أسلوب التوفيق) بين العلم والكتب المقدسة

وبناءً على هذا الافتراض يقول د بوكاي إنه لا توجد (صعوبات) في القرآن، مع أنه يقول (إن تفسير كل كلمة لكل من تلك الآيات أمر عسير) (ص 221) وقد سبق أن قال إن (الشهب الثاقبة) مبهمة، ولكن لا توجد فيها (صعوبات ولا ترجيحات ولا احتمالات).

 

وفي صفحة 146 من كتابه يقول د بوكاي:

(من هنا ندرك كيف أن مفسّري القرآن (بما في ذلك مفسرو عصر الحضارة الإسلامية العظيم) قد أخطأوا حتماً وطيلة قرون في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق إن ترجمة هذه الآيات وتفسيرها بشكل صحيح لم يكن ممكناً إلا بعد ذلك العصر بكثير، أي في عصر قريب منا ذلك يتضمن أن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي وحدها لفهم هذه الآيات القرآنية، بل يجب بالإضافة إليها امتلاك معارف علمية شديدة التنوّع ذلك يعني أن إنسان القرون السالفة لم يكن باستطاعته إلا أن يتبيّن في هذا الجزء من الآيات معنى ظاهراً قاده في بعض الأحوال إلى استخراج نتائج غير صحيحة، وذلك بسبب عدم كفاية معرفته في العصر المعني به).

ولكي يتحاشى د بوكاي هذه التفاصيل (الدقيقة) حاول أن يخترع معاني جديدة للكلمات العربية لتتفق مع العلم الحديث وقد فرح كثيرون من دارسي العلوم المسلمين بجهود د بوكاي، غير أن افتراضه أن المفسرين المسلمين القدامي المتبحّرين في اللغة العربية ونحوها ومعانيها كانوا أقل قدرة على فهم القرآن من المحدثين (خصوصاً الأوربيين) يبدو فخراً فارغاً فقد نزل القرآن بلسان عربي مبين ليفهمه القريشيون ونعتقد أن د بوكاي أوجد لنفسه تفسيره الخاص!

 

النتيجة

يعرف كل قارئ أنه يقدر أن يعثر في أي كتاب على ما يريد العثور عليه! ولو قرأنا القرآن أو الكتاب المقدس بافتراض مسبَّق أنهما مليئان بالأخطاء فسنجد تلك (الأخطاء الكثيرة) لأننا نتبع (أسلوب الهجوم) أما إذا درسناهما بقلب مؤمن، واثقين أن كلمة الله وعلومه متفقان فإننا نتبع (أسلوب التوفيق) وسنجد وقتها أخطاء قليلة إن كنا نلوي ذراع العِلم أو نضغط على تفسير الكتاب المقدس.

 

ولقد اتّبع د بوكاي (أسلوب الهجوم) مع الكتاب المقدس، بينما اتّبع (أسلوب التوفيق) مع القرآن وكنموذج لذلك معالجته لأيام الخليقة، فيقول في الفصل الأول عن الكتاب المقدس (ص 45):

(إن إدراج مراحل الخلق المتعاقبة في إطار أسبوع لايقبل الدفاع من وجهة النظر العلمية، فمعروف تماماً في أيامنا أن تشكيل الكون والأرض قد تم على مراحل تمتد على فترات زمنية شديدة الطول وحتى إذا كان مسموحاً لنا، كما هو الأمر بالنسبة للرواية القرآنية، أن نعتبر أن المقصود فعلاً هو فترات غير محددة وليس أياماً بالمعنى الحقيقي، فإن النص الكهنوتي يظل غير مقبول، حيث أن تعاقب الأحداث فيه يناقض المعلومات العلمية الأصلية).

وكلام د بوكاي هذا يعني احتمال أن يكون (يوم) الكتاب المقدس (حقبة غير محدودة) ولكن د بوكاي عندما يناقش الموضوع مرة أخرى في الفصل الثالث عن القرآن يقول: (إن كلمة (يوم) كما يُفهم من التوراة تعرّف المسافة الزمنية بين إشراقين متواليين للشمس، وذلك بالنسبة لسكان الأرض) (ص 158) فهو يقول إن يوم الخلق في الكتاب المقدس هو 24 ساعة، وهي غلطة كبيرة.

 

وفي الصفحة نفسها يناقش د بوكاي الكلمة العربية (يوم) ويقتبس آيتين قرآنيتين ليوضح أنها قد تعني حقبة زمنية، فيقول إنه جاء في سورة السجدة 32:5 (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ثم يقول: والقول إن الخلق حدث في ست حقب هو ما تقوله سورة المعارج 70:4 (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

 

ويبدو كلام د بوكاي مقنعاً حتى نقرأ الآيات في قرينتها، ففي السجدة 32:4 و5 (من العهد المكي الوسيط) نقرأ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سَتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وتقول سورة المعارج 70:4 (وهي من العهد المكي الأول) (تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) وعندما ننظر إلى القرائن نرى أن هذه (أيام روحية) تختص باليوم الأخير، وعروج الملائكة والروح ولا نقدر أن نجزم كيف فهم أهل قريش معنى كلمة (يوم) - هل هو حقبة أو 24 ساعة؟ ولكن نقول: إن كانت كلمة (يوم) في اللغة العربية قد تعني (حقبة) فلماذا لا تعني الكلمة (يوم) الواردة في الكتاب المقدس معنى (حقبة) أيضاً؟ جاء في 2 بطرس 3:7-9 (وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ الْكَائِنَةُ الْآنَ فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلَاكِ النَّاسِ الْفُجَّارِ وَلكِنْ لَا يَخْفَ عَلَيْكُمْ هذَا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَيُّهَا الْأَحِبَّاءُ، أَنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ.. لكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لَا يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ) فاليوم هنا روحي، هو اليوم الأخير، ولا خلاف بين هذا وبين المعنى القرآني وفي كتاب (تكوين 1 وأصل الأرض) يقول الكاتبان (نيومان وإكلمان) 11:

(لا نحتاج إلى دراسة مطوَّلة لمعنى كلمة يوم في العبرية، فهي كثيراً ما تعني الزمن الذي تشرق فيه الشمس، وهو نحو 12 ساعة (تكوين 1:5 و14أ) كما تعني يوماً وليلة أي 24 ساعة (تك 1:14 ب والعدد 3:13) وقد تعني حقبة زمنية (تك 2:4 والجامعة 12:3))

فلماذا يُغفل د بوكاي ذكر هذه الحقائق؟ لقد ورد ذكر ستة أيام الخلق ويوم الراحة السابع في تكوين 1 وبعدها يقول تكوين 2:4 (هذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ، يَوْمَ عَمِلَ الرَّبُّ الْإِلهُ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ) وكلمة (يوم) هنا تعني كل زمن الخليقة وفي الجامعة 12:3 يقول: (فِي يَوْمٍ يَتَزَعْزَعُ فِيهِ حَفَظَةُ الْبَيْتِ، وَتَتَلَوَّى رِجَالُ الْقُوَّةِ، وَتَبْطُلُ الطَّوَاحِنُ لِأَنَّهَا قَلَّتْ، وَتُظْلِمُ النَّوَاظِرُ مِنَ الشَّبَابِيكِ) وهذا كلام رمزي، يمكن ترجمته تفسيرياً كالآتي: (سيأتي يوم تصطك فيه ركبتاك من كِبر السنّ، وتصبح ساقاك ضعيفتين  إلخ) وتجيء كلمة (يوم) هنا وصفاً لمرحلة الشيخوخة.

 

وقول د بوكاي إن كلمة (يوم) العربية يمكن أن تشير إلى حقبة ليس جديداً، فقد سبقه القديس أغسطينوس إلى ذلك في القرن الرابع وقال إن يوم الخليقة عظيم ورائع حتى إنه لا ينقسم بشروق الشمس، بل بتقسيم الله إنها أيام إلهية لا شمسية.

 

جاء في كتاب (العلم الحديث والإيمان المسيحي) 12 (نُشر عام 1948) أن يوم الخليقة هو حقبة زمنية، سُمّي (نظرية يوم الدهر) وكتب مفسر يهودي معاصر هو أندريه نِهِر 13 يقول:

(في تكوين 1 جاءت كلمة يوم بثلاثة معانٍ في آية 4 يتطابق اليوم مع النور، وبالحري تُطلق كلمة يوم على النور، ولكلمة يوم معنى كوني أما في آية 14 فإن كلمة يوم تحمل معنى فلكياً، من شروق الشمس إلى شروقها التالي أما المعنى الثالث فهو حقبة تتلوها حقبة أخرى وعليه فإن أيام الخليقة ليست 24 ساعة، بل حقب متتالية)

من كل هذا نرى أن د بوكاي اختار أسلوب الهجوم، وأغفل كل هذه النقاط المضادة لفكره، ليبرهن وجود تناقض بين الكتاب المقدس والعِلم (الماء) و(الدخان).

 

ونقدم نموذجاً آخر لأسلوب الهجوم وأسلوب التوفيق كما جاء بكتاب د بوكاي من جانب، وكتاب (تكوين وأصول الأرض) للكاتبين نيومان وإكلمان من جانب آخر، والذي أوضحا فيه حقائق تبرهن أن قصة الخلق كما جاءت في سفر التكوين تتوافق مع العلم الحديث نتأمل أولاً آية من الكتاب المقدس عن الماء، استخدم د بوكاي معها أسلوب الهجوم، واستخدم الكاتبان نيومان وإكلمان معها أسلوب التوفيق:

الماء: التوراة، تكوين 1:1و 2

(فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللّهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ).

أسلوب الهجوم من د. بوكاي:

أسلوب التوفيق من د نيومان ود إكلمان 14:

(نستطيع أن نقبل تماماً أن في مرحلة ما قبل خَلق الأرض، كان ما سيصبح الكون كما نعرفه غارقاً في الظلمات ولكن الإشارة إلى المياه في تلك المرحلة أمر رمزي صرف وربما كان ترجمة لأسطورة وسنرى في الجزء الثالث من هذا الكتاب أن هناك ما يسمح بالاعتقاد بوجود كتلة غازية في المرحلة الأولى لتكوّن الكون إن القول بوجود الماء في تلك المرحلة غلط) (ص 41).

لكلمة (ماء ومياه) معنى أوسع مما تراه العين أول وهلة، فهي تصف سوائل متنوعة فكلمة ماء تعني البول (2 ملوك 18:27) وتعني المني (إشعياء 48:1) وتعني حالة الماء كبخار أو قطرات (2 صموئيل 22:5 وأيوب 26:8 و36:27 و28 وإرميا 51:16) أو كثلج (أيوب 37:10 و38:30) فمعناها في تكوين 1:2 غير محدد: قد يكون بخاراً أو سحاباً أو قطرات أو ثلجاً، أو أي سوائل أخرى على كلٍّ من هذه كان يمكن أن (روح الله يرفّ) ويتفق هذا مع النظريات العلمية، فالغيمة السديمية قد تحتوي على بخار وهناك احتمال أن (المياه) تعني كيماويات داخلة في تكوين السحب.

 

ويتكون الماء من أوكسجين وهيدروجين، ولكن السحب تتكون من الهيدروجين والهليوم وثاني أكسيد الكربون والأزوت والأوكسجين والكلمة العبرية (مياه) تحتمل كل هذا المعنىوالآن لنتأمل آيات قرآنية استخدم معها د بوكاي  أسلوب التوفيق:

الدخان: سورة فصلت 41 آيات 9-11

(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).

أسلوب التوفيق الذي استخدمه د بوكاي:

أسلوب الهجوم:

قال د بوكاي: (هذه الآيات الأربع من سورة فُصلت تقدم جوانب متعددة سنعود إليها: نعني الحالة الغازية الأولية للمادة السماوية (ص 160) وجود كتلة غازية ذات جزيئات فكذلك يجب تفسير كلمة (دخان) إذ يتكون الدخان عموماً من قوام غازي حيث تعلق به  بشكل أكثر أو أقل ثبوتاً جزيئات دقيقة قد تنتمي إلى حالات المواد الصلبة أو حتى السائلة مع درجة في الحرارة قد تقل أو تكثر (ص 163) إذا أخذنا كمثال (وهو المثال الوحيد الممكن اعتباره) تكوين الشمس ونتاجها الثانوي أي الأرض، نجد أن العملية قد تمت من خلال تكاثف السديم الأولي وانفصالهما، وذلك بالتحديد ما يعبر عنه القرآن بشكل صريح عندما يشير إلى العملية التي أنتجت ابتداء من الدخان السماوي (رتقاً ثم فتقاً) إننا نسجل هنا التطابق الكامل بين المعطية القرآنية والمعطية العلمية) (ص 171).

 

تقول هذه الآيات إنه في مرحلة من الزمن كانت السماء دخاناً، والدخان يحتوي على جزيئات عضوية قد تنتمي إلى حالات المواد الصلبة وهذا خطأ محض،لأنه في الزمن الغازي الأولي لم تكن هناك مواد عضوية ثم أن السديميات التي يُفترض أنها سابقة للكواكب السيارة خفيفة الكثافة جداً ولا يمكن أن يعلق بها شيء وهذا يعني أنها جزيئات غازية دقيقة تتعلق بها ذرات ترابية بسيطة ولو كانت هذه الآيات تتحدث عن حالة غازية بدائية لكانت الأرض والسماء معاً دخاناً، ولكن هذه الآيات تقول إنه كان هناك جبال وأقوات في الأرض، بينما كانت السماء دخاناً! لا بد إذاً أن تكون في هذه الآيات أخطاء فلكية.

 

فما هي نتيجة هذه الدراسة الصغيرة؟  يقول (نيومان وإكلمان) إن الماء (كما ورد في تك 1:2) قد يعني غازات بدائية، ولكن د بوكاي يقول إن هذا خطأ محض.

 

ويقول بوكاي إن الدخان في سورة فصلت 11 يعني الغازات البدائية ويقول أسلوب الهجوم إن هذا خطأ محض.

 

ولعل المزيد من معرفتنا للغتين العبرية والعربية، والمزيد من المعرفة في عِلم الفيزياء الفلكية تمكننا من تقييم التفسيرين لنقرر أيهما أكثر صحة من الآخر، ولكن الهدف من دراستنا هذه أن نُظهر تأثير التحيُّز فلو سمح بوكاي لنفسه أن يقول إن الدخان يعني الحالة الغازية البدائية، فليس له أن ينكر على نيومان وإكلمان أن يقولا إن (الماء) يمكن أن يعني الحالة الغازية، والعكس صحيح.

 

ومن الواضح أننا لن ننجو من التحيُّز، فلكلٍ منّا إيمانه واقتناعاته، يريد أن تثبت صحتها وصحة اقتناعات المؤمنين من أمثاله ويميل كل منا إلى ترجيح كفة ما يعتنقه وعلينا أن نعترف بتحيُّزنا، ونقبل المناقشة من (الآخَر) ومعه، فإنه عندما يقول مسيحي أو مسلم إنه على صواب وإن العِلم في جانبه يكون قد أضاء النور الأحمر وصار خطيراً، لأنه يعاني من الوهم، ولا يدري مقدار تعصُّبه وبُعْده عن العِلم!

 

لو أني اقتبست نصف آية لأبرهن ما أعتقد أنه صواب أكون قد انحرفت عن الحق ولو أني تردَّدت عن اقتباس آيات تتعارض مع فكري أكون قد لويت ذراع الحق وعلينا أن نترك أسلوب الهجوم، فلا نقول إن شيئاً ما كله خطأ وكله مرفوض، وإن الذي يختلف معنا قد ضل تماماً وعلينا أن نعترف بتحيّزنا، ثم نحاول أن نأخذ في اعتبارنا كل الحقائق، وأن نكون عادلين في أحكامنا، وهذا ما قاله المسيح: (فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ) (متى 7:12) وهو ما قالته التوراة (تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ) (لاويين 19:18).

 

4- افتراضات أخرى عن الكتاب المقدس:

يفترض د بوكاي أن (نظرية الوثائق) عن أصل وتطوّر التوراة صحيحة وقد تطورت هذه النظرية في صورتها النهائية عام 1890 وقامت على الاعتقادات التالية:

  1. هناك تطور ديني من تعدد الآلهة إلى وحدانية الله، فتكون التوراة نتاج استنباط الحساسية الدينية عند بني إسرائيل، ولا شأن لها بإعلان الله عن نفسه بواسطة ملاك أو بواسطة الروح القدس.

  2. لما كانت العادات الواردة عن حياة إبرهيم في التوراة غير واردة إلا في المصادر التوراتية فقط (مثل زواج إبرهيم من أخته غير الشقيقة سارة، وطرد هاجر زوجته التي كانت خادمته بناءً على طلب سارة) ولما كان الحثيون غير مذكورين إلا في التوراة، تُعدُّ هذه الحقائق التوراتية عن حياة إبرهيم وإسحق ويعقوب حقائق غير تاريخية، وتكون مجرد قصص أو أساطير.

  3. كان موسى وبنو إسرائيل عاجزين عن الكتابة، لأنها لم تكن قد عُرفت بعد.

  4. إذاً لم يكتب موسى الأسفار الخمسة الأولى من التوراة سنة 1400 أو 1300 ق م كما تقول التوراة والقرآن، ولكن كتبها مؤلفون مجهولون بعد ألف سنة من ذلك التاريخ، أي عام 400 ق م، ونسبوها إلى موسى وتُعرف هذه النظرية باسم (نظرية الوثائق).

  5. لا يؤمن أصحاب (نظرية الوثائق) بالمعجزات التي أجراها موسى والمسيح، ويكفرون بفكرة النبوة وبأن الله يوحي كلمات للبشر، فلم يكلم الله موسى ولا المسيح ولم يلقّنهم تعاليمه للبشر وفي هذا هجوم على التوراة والإنجيل، كما أنه هجوم على القرآن.

ويمكننا أن نقول إن الكفر بالمعجزات والنبوّة هو أساس هذه النظرية وقد اقتبس د بوكاي آراء بعض اللاهوتيين الكاثوليك الذين يؤمنون بهذه النظرية وأنا لا أقطع بأنهم ينكرون احتمال حدوث المعجزات، لأني لم أقرأ كل ما كتبوه كما أن د بوكاي لا ينكر المعجزات، لأنه قال في مقدمة كتابه إن المسيح وُلد من عذراء (ص 6)، غير أن بعض اللاهوتيين البروتستانت قاموا بتطوير هذه النظرية وافترضوا استحالة حدوث المعجزات وإني أتفق مع د بوكاي في غضبه من بعض رجال الكنيسة، كاثوليك وبروتستانت، الذين يقتبسون أقوال موسى والمسيح لشعب الكنيسة  وكأنهم يؤمنون بالوحي، بينما هم يكتبون البحوث الفقهية التي ينكرون فيها الوحي!

 

وأنا أرفض (نظرية الوثائق) وسأذكر (في جزء 3 فصل 1) أسباب هذا الرفض، ولكن لنفحص أولاً ما يقوله القرآن عن الكتاب المقدس، لأن هذا سيعطينا أساساً بمقتضاه يحكم القارئ لنفسه على مدى صحة أو خطأ (نظرية الوثائق) فلو صدَقت (كما يدَّعي د بوكاي) لكانت هجوماً على القرآن كما هي على التوراة والإنجيل.

 

الفصل التالي    الفصل السابق

 

9. Thomas S Kuhn, STRUCTURE OF SCIENTIFIC REVOLUTIONS, nd edUof Chicago Press

10. James Orr, OLD TESTAMENT CRITICS, Thomas Whitelaw, Kegan, Paul, Trench, Trubner& Co, Ltd, London

11. Neuman and Eckelmann,GENESIS ONE AND THE ORIGIN OF EARTH, Intervarsity Press, Downers Groves, Ill

12. MODERN SCIENCE AND CHRISTIAN FAITH, Eleven Essays, Van Kampen Press, Wheaton,

13. Andre Neher, COMPRENDRE, PUF

14. Neuman and Eckelmann, op cit

 


القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم

القرآن والعلم

كتب أخرى

الرد على الإسلام